الصين ستصبح الإقتصاد الأول في العالم قريبا ومازال العالم الثالث يقلد إقتصادات أمريكا وأوروبا. برأيك أين الخلل؟

ليس هناك بالضرورة “خلل”، وليس هناك تقليد بناء يذكر، بل هو “تخلف” بمعنى ليس هو بالضرورة تنقيصي بل واقعي مشتق من “تأخر”، تخلف يتخلف تخلفا فهو متخلف عن الركب

وهذا التأخر ناجم عن معادلة للزمن لا يمكن حلها، إلى أن تسهل قراءتها علنا، ويسهل فهمها جمعا

المواكبة في أي شيء، تحتاج إلى زمن وتكريس منظم، متكامل، ثاقب وواقعي للمجهود، تحقيقا لعناصر التطورالذاتي والتي ما تزال إلى يومنا واردة (بل أغلبها مستوردة  طواعية، إن صح التعبير) من العالم الأكثر تطورا. هناك شعوب منتجة للتطور وهناك شعوب مستهلكة للتطور. ليس هناك ما يشين في ذكر الحقيقة ووصف الواقع كما هو. وكلمة السر هنا واضحة وواحدة: الصناعة! أو بقليل من الإستطراد، خلق أشياء مفيدة لتحسين، تطوير، تنويع، تطويل، تسهيل أو تجميل الحياة الإنسانية. بعض هذه الأشياء قد لا تكون ضرورية للكل بل بالأحرى مضرة للبعض. ولكن أليس هذا هو الحال دوما؟ وأليس دوام حسن الحال من المحال، إن كان دوام الحال عامة محال؟ فلنأخذ الإقتصاد الياباني على سبيل المثال

الأجهزة الإلكترونية اليابانية هي المفضلة في المنطقة العربية  (Jazarah.net)

الأجهزة الإلكترونية اليابانية هي المفضلة في المنطقة العربية (Jazarah.net)

الإقتصاد الياباني هو إقتصاد تعلم، إستورد، وقلد الكثير من الغرب إلى أن أصبح مواكبا، ثم منافسا، ثم قائدا مجددا في العديد من النواحي.  لم يخجل اليابانيون من تأخرهم أو يبخلوا بطأطأة رأسهم الشهيرة احتراما للمعلم، طلبا للعلم، ليس في الصين ولكن في الغرب. وتأثروا أيضا ثقافيا بالغرب، دون عقد متعلقة بالهوية أو تخلي تام عن مصادر فخرهم التراثية. أما “عقدة الغربي أو الأفرنجي”، كما تدوم الإشارة لها من قبل البعض كسبب شبه عقائدي لرفض التقدم، فهي عقدة نفسية طبيعية ناجمة عن شعور بالنقص لدى البلدان الأقل تقدما، والكثير من الشعوب تتشارك في هذه العقدة ولكن ليست جميعها تشكو منها. حتى فيما بين البلدان الغربية هناك شعور بالنقص متفاوت في الحدة. فبلغاريا ليست بألمانيا، لأسباب واضحة لعل من أجلها قدرة ألمانيا على إنقاذ الإتحاد الأوروبي بأكمله باقتصاد لا تكل فيه ماكينة ولا يغيب فيه عامل دون سبب وجيه! واستراليا ليست بأمريكا رغم أن تاريخ المنشأ قد يكون الأكثر قرابة من نواحي كثيرة

ومن الطبيعي أيضا أن يكون هناك تقليد ثقافي من قبل الدول الصغرى للدول الكبرى

هذا التقليد ناجم عن قوة ثقافية عظمى، عظم شانها وتأثيرها وانتشارها بتطور مطلق ونفوذ شامل في المجالات الأخرى. هوليوود هي هوليوود لأن هوليود صنعت أول الأفلام، هل من مجادل؟ أو منافس؟ نعم. بوليوود فيما يتعلق بغزارة الإنتاج، وليست السينما الفرنسية أو الإيطالية وحتما ليست العربية. وبوليود قبل 20 سنة ليست هي بوليوود اليوم. فقد تقدمت صناعة السينما لديهم، وأصبحت إنتاجاتهم متعددة المواضيع والمداخل، وأكثر حرية ونقدا للمجتمع وتركيباته الطبقية، بل صدق أو لا تصدق أحيانا قد تخلو أفلام بوليوود الجديدة تماما من الغناء والرقص الهزلي ولعلها الآن المنتج الهندي الأكثر شعبية عالميا، أكثر من الشاي والكيري الشهيرين. الهند تسبح مع التيارالجارف بمهارة وحنكة وديموقراطية كبرى نجحت في التصدي لتحديات دولة كبيرة جيوغرافيا ومتعددة المذاهب والأعراق ثقافيا، وقد أفاد ذلك صحتها وعرض منكبيها، حتى وإن لم تخلو تماما من الأمراض التي تظهر أعراضها مع أي تغيير جذري

 وعندما تكون تلك القوة الثقافية المؤثرة صادرة عن دول عدة كبرى تجمعها ثقافة غربية ما مشتركة وتكونها أقليات متعددة الثقافات والألوان، ولها دور في تاريخية تكوينها كدول الغرب الكبرى الآن فمن السهل تقبلها وتقليدها من قبل جميع العالم، وخاصة إذا كانت مثل تلك الثقافات مضيفة للبهجة والإمتنان أو منمية لبعض الشعور بالإنتماء للفريق الأفضل أوالأفضل من غيره من باقي الفرق، وكذلك هي ليست مفروضة فرضا على الإنسان العادي، سوى أنه ليس هناك بديل محلي أفضل أو صناعة محلية للثقافة المحلية. من لديه إعتراض فليصنع ما هو أفضل

 ألم تعجب يوما لماذا كثير من اليابانيات شقراوات وأن عالم الأزياء الياباني “الشوارعي” قد يكون أغني وأغلى من الغربي، أو لماذا فن الكرتون الياباني الشهير “أنيمي” غالبا ما لا يمت للمظهر الياباني أو الآسيوي التقليدي بصلة، بل أقرب للمظهر الغربي بعيون نسائية تكاد تلتهم كامل الوجه بوسعها؟ قد تكون عقدة نقص، أو رغبة بتصدير منتج عالمي الشكل وليس محلي للدخول في المنافسة. لماذا اختاروا الشكل الأوروبي لإضافة العالمية لمنتجهم الكرتوني يا ترى؟ الفنون الثقافية الأخرى، كالفن العربي الإسلامي، لم تكن تعنى برسم الوجوه والأشخاص والأجساد بل برسم الكلمات والأبيات وشتى النصوص، متمثلة في فن الخط العربي، وهو فن رفيع وله قاعدة معجبين واسعة في العالم ولكنه فن لغوي الشكل والمحتوى وبالتالي يصعب تصديره. أما الثقافة الغربية فاهتمامها بالشكل والوجه والجسد وتجسيد كل ذلك قديم جدا وموجود في كل مكان ولذلك يسهل تقليدها والإنبهار بها، وخاصة إن ساعدتهم تكنولوجياتهم في ابتكار أنواع جديدة من الفن كالسينما أو الموسيقى اتي يمكن تسجيلها وبالتالي نشرها، دون أن تكون بالضرورة حية

ألم يسبق اليابانيون العالم في صناعة السيارات الصغيرة والإقتصادية الإستهلاك والمتوسطة السعر؟ هاهي السيارات الأمريكية تصبح صغيرة هي الأخرى لكي تتماشى مع إستهلاك الوقود الذي قارب على الإنتهاء ولتتقي شر التكلفة  المضافة للسيارات الكبيرة التابعة لثقل الوزن ومتطلبات العالم البيئية الجديدة.

هل اليابانيون هم من أخترع السيارة؟

الناتج المحلي للصين في العام 2010 مقارنة مع إقتصادات تقليدية

الناتج المحلي للصين في العام 2010 مقارنة مع إقتصادات تقليدية

المقارنة بين الإقتصاد الصيني اليافع والنامي بقوة والغربي الخبير المتزن ليست صحيحة، لأن الأخير هو اقتصاد معرفي وعلمي بالدرجة الأولى وظل كذلك لقرون طوال، بدأ خلالها حملة تطوره بالثورة الزراعية، ثم التجارية، ثم المالية، ثم الصناعية، وأخيرا الثورة السياسية الإنسانية المجتمعية والتي فرض بها الغرب نفسه على بقية العالم بطريقة لا مثيل لها في التاريخ مدعومة بعوامل أخرى نتجت عن هذا التقدم ودعمته في الوقت ذاته كالإستعمار الذي دعمه تطوير السلاح والبارود والفولاذ (وأسباب أخرى يندر ذكرها، كغياب المناعة الجسدية لدى الأفارقة، مثلا، ضد أمراض أوروبا الناتجة من الإنغلاق الجيوغرافي لإفريقيا، حيث أن علم البحارة والإستكشاف لم يكن متطور جدا كمثيله في الغرب، وكذلك عدم وجود الحصان في أمريكا اللاتينية كوسيلة مواصلات قتالية، حيث لم يكن لديهم سوى اللاما مقارنة بالغزاة الأسبان منتطي الخيول، مما ساهم في إنتصار القلة على الكثرة)، نعم الإستعمار بمعنى التعمير رغم التناقضية أو الرفضية، وهو لفظ لا يمت بصلة للفظ الإنجليزي “كولونيزيشن” بمعنى “الضم عن طريق الإحتلال”، بل هو بالأحرى معرب من قبل مستشرق أو مستعرب غربي ما، نتيجة لحال البلدان في تلك الآونة مقارنة بقوى عظمى عامرة ومتقدمة بقرون، وأكثر قوة وتقدما ممن استعمرتهم في أغلب النواحي الملموسة اللاثقافية.

لماذا اللاثقافية؟

ليس لأن الثقافات المحلية هي بالضرورة أفضل أو أسوأ، ولكن لأن أهل الثقافة على مدى التاريخ دائما ما يدافعون عن ثقافتهم ويقاومون أي تغيير ثقافي بطبيعتهم. ردة الفعل الأولى لأي تغيير هي المقاومة ، سواء أكان التغيير جماديا كلي المعادن، أوإنسانيا كفرض رسمي للغة جديدة أو صقل للعقول عن طريق أنظمة تعليم جديدة تتم مقاومتهما من باب الفخر والإعتزاز المنطقيين. والإستعمار هو نتيجة تاريخية طبيعية لإختلاف القوى والتقدم العلمي والإقتصادي بين الحضارات بغض النظر عن جنسها. القوي والمتطور بطبعه ينظر نظرة دونية للأقل تطورا، وقد يرغب بفرض نفوذه وجعل الآخرين مثله. جميع الأمم على مدى التاريخ، ضعيفة وقوية، سلمت أمرها لهذا القدر التاريخي، مدعومة بأسباب بعضها منطقي وأغلبها واهم للذات، وبعضها نجح في قلب الكفة بحكمة وصبر وتدبير.

عجلة الزمن ليس لها رقيب أو مالك سوى ساكني الزمن أنفسهم

عند الحديث عن الثقافة المكتسبة أو الواردة، يغفى الكثيرون عن ذكر العوامل الحميدة للثقافات المتقدمة إقتصاديا وتقنيا، كثقافة الإبتكار والعمل والإنتاج والجد والإجتهاد واحترام الوقت والإلتزام والتطوير. وهذه هي بالضبط العناصر التي تخلفت وتأخرت في تقليدها الشعوب المستهلكة. ولأنها عناصر ثقافية، نعم ثقافية وفكرية وتصرفية، فقد صعب تصديرها (أو إستيرادها) بنفس السهولة والسرعة التي تم بها تصدير (إستيراد) العناصر الملموسة اللاثقافية للتقدم، كتكنلوجيا البناء والحرب والاتصالات والمواصلات والتكنلوجيا الطبية الصحية، وصناعة المنتجات الغذائية، والسكة حديد، وصناعة الفولاذ وصقل المعادن والتنقيب، والمنتجات الكهربائية والإلكترونية لاحقا إلخ

هذه الأشياء كلها واردات إستهلاكية، أي منتجات تشترى ويتاجر بها وتستهلك فقط ولكن لا تصنع محليا. وفرة هذه المنتجات ساهمت في حملة تحقيق مواكبة الدول الأقل تقدما للدول الأكثر تقدما لخلق عالم مترابط ومتفاهم تزدهر فيه التجارة حتى وإن كان فيها خاسرون وفائزون حدد مصيرهم مسبقا، فأصبحت الدول المتخلفة دول نامية، نموها مستمد فقط من استقطابها لأنظمة التعليم الحديث، ولمنتجات مصنعة جاهزة أو من ثروات طبيعية. ولكن أسس هذا العالم الجديد بحذافيره القانوية والتعاملية تم وضعها من قبل الحضارة الغربية التي، وبدون لف أو دوران أو تناقضية رافضة ومنهكة للقوى الفكرية، هي الحضارة الأكثر تأثيرا على مسار الإنسانية، إلى موعد آخر مع حضارة أخرى أخشى بأننا لن نشهدها. ولذلك استحقت، بل فرضت، الهيبة والإحترام الطبيعيين

أما الإقتصاد الصيني فهو نوع جديد يمزج بين الكثرة والجرأة والذكاء والتضحية والمرونة والضبط. وهو ليس إقتصاد معرفي أو صناعي بالمعنى التقليدي بعد، بالتركيز على كلمة “بعد” لأنه فوق كل شيء إقتصاد صبور وثاقب الرؤيا، فالإقتصاد الصيني هو بالضبط إقتصاد “تقليدي” بالمعنى الآخر للكلمة. الإقتصاد الصيني إقتصاد ضخم جدا ويقلد كثيرا ورخيص التكلفة غالبا ومرغوب فيه إلى أصبح العالم في أمس الحاجة له. إقتصاد الصين ولعشرات السنين خضع لنفس العوامل التي خضعت لها إقتصادات دول العالم الثاني والثالث الأخرى، ولكن بعض السياسات الثاقبة قامت بخطط طويلة المدى خدمت مصالح الدول المتقدمة الإقتصادية دون أن تضر بخططها المستقبلية الخاصة، ودون أن تنتبه هذه الدول الأخيرة لعامل الكبر الرهيب للصين كقوة عاملة فذة وكتلة ملتزمة وموحدة، إلى أن اصبح لا تخلي عنها ولا تدخل فيها

مؤشرات النمو الإقتصادي في الصين للعام 2013

مؤشرات النمو الإقتصادي في الصين للعام 2013

إلى أن تحدث النقلة الفعلية لغالبية عناصر الإقتصاد الصيني الصناعي من التقليد إلى التحديث والريادة، فإن أي مقارنة مع الإقتصادات الغربية قد لا تكون عادلة أو حكيمة بل بالأحرى مبالغ فيها. يكفي الذكر بأن الإقتصادات الكبرى التقليدية، وتبعا لعوامل إقتصادية صغرى وكبرى، غالبا ما تستمد رخاءها المستديم من القوة الشرائية الكبيرة لمواطنيها وساكنيها من الوافدين ومن توزيع الثروات المتزن ونسبة التعليم العالي المرتفعة في المجتمع. وهذا أيضا يحتاج لوقت، لكثير من الوقت في حالة الصين بحكم تعدادها، ولوقت أكثر فيما يتعلق بالدول الأخرى المتذبذبة سياسيا وأمنيا واستقرارية

فيما يتعلق بمعظم الدول النامية فإن عجلة التطور في حد ذاتها ليست خاضعة لبراءة إختراع ولا تحتاج لابتكار من جديد. أكبر المستحيلات يمكن تحقيقها بالتفكر والجد والإجتهاد في طلب وتكريس العلم، وبالتخلي عن إضاعة الوقت في سفاسف الأمور والعادات والتقاليد المذهبة للعقل والوقت والجهد دون التخلي عن نقد الذات بحثا عما هو أفضل، فليس كل ما اعتاد عليه المرء هو بالضرورة حسن (العادات) وليس كا ما قلده المرء هو بالضرورة جيد (التقاليد). هذا رأيي. ما رأيك أنت؟

What do you think? Can you please provide your feeback? :-)